وظائف البحث العلمي
مقدمة: البحث العلمي ليس عمل ترفيه، ولا غاية ثانوية، كما قد يتصور البعض، بل انه حاجة أساسية للمجتمعات الحديثة التي تسعى إلى تحقيق طموحاتها في التنمية والتطور والتقدم بأيسر الطرق واضمنها وأسرعها، حيث تعول تلك المجتمعات على البحث العلمي في انجاز نهضتها، وتجاوز عثراتها والوصول بمستوى حياة أفرادها إلى الدرجات التي تليق بها.
وظائف البحث العلمي بالترتيب
أن للبحث العلمي العديد من الوظائف التي يمكن إجمالها في الآتي:
1- تطوير المعرفة العلمية
ذلك أن المعرفة العلمية عملية تراكمية تتطور بفعل البحث العلمي المستمر والمتواصل، والذي بدونه تتعطل المعارف وتتأخر، فالبحث العلمي هو الكفيل بتزويد المكتبة العلمية بكل جديد في مجالات المعرفة المختلفة والمتعددة، وتطوير وتحديث العلوم على اختلاف تخصصاتها ومجالاتها، وعندما نذكر المعرفة العلمية فإننا نقصد تحديدا المعرفة المؤسسة على البحث والتجربة والأساليب العلمية في التقصي، ذلك أن المعرفة العلمية ليست انطباعات شخصية، وليست أراء فردية، ولا وجهات نظر، بل إنها نتاج إجراءات منهجية صارمة، يلتزم بها الباحثين التطوير حقولهم المعرفية، وتحصيل المعارف المطلوبة، وبالتالي فإن هذه المعرفة تتسم بالمصداقية، وتتمتع بمستوى عال من الثقة.
2 - تقديم حلول للمشاكل العالقة
كما سبقت الإشارة فإن البحث العلمي ليس مهمة إضافية، بل هو حاجة ملحة لمواجهة ما يعترض المجتمع والمؤسسات من تحديات ومشكلات، حيث وفي ظل تعقد وتشعب وتزايد وظائف وأدوار المؤسسات الانتاجية والخدمية وغيرها، وزيادة حدة المنافسة بين تلك المؤسسات والشركات، بهدف تقديم الأفضل والمتميز في المجال الذي تنشط فيه، فإنه ليس من سبيل أمامها سوى الدفع بالبحث العلمي لتولي وظيفة إجراء الدراسات، والحصول على المعلومات التي يمكن أن تؤسس لبناء قاعدة معلوماتية داخل المؤسسة، تجعلها أكثر قدرة على الأداء والانجاز والتواصل مع محيطها.
لقد صار هناك اتفاقا بين المؤسسات في المجتمعات المتحضرة بأنه لا سبيل الحل المشكلات التي تعترضها إلا بالبحث العلمي، ولذلك تنشئ المؤسسات والشركات الضخمة إدارات واقسام وفرق تتولى عملية البحث العلمي، والاتفاق عليه بسخاء، والتعاقد كذلك مع المراكز البحثية المتخصصة لإنجاز البحوث التي تحتاجها.
وفي ذات الوقت أيضا تتولى الدول المتقدمة تأسيس المراكز البحثية المتخصصة في حقول العلم المتعددة، (الاجتماعية والطبيعية) وتغدق عليها الأموال الطائلة، لإدراكها أنه الوسيلة الأهم للتعامل بعلمية مع ما يعترضها ويواجهها من مشكلات، ومع ما تتعامل معه من قضايا واحداث متوقعة وطارئة، ولذلك فإن قرارات هذه الدول ومواقفها وسياساتها وتصريحات قادتها تتخذ بناء على ما توفره لها مراكز البحث العلمي في مجال العلوم السياسية والاستراتيجية والاجتماعية من معلومات وبيانات وحقائق، هو ما يجعلها أكثر قدرة على تحديد اهدافها، وتنفيذ سياساتها بنجاح.
ولا يختلف الأمر طبعا في مجالات العلوم الطبيعية، حيث تنتشر في البلدان المتقدمة مراكز البحث العلمي التي تعنى بالطاقة والفضاء والسلاح، والطب وتصنيع الأدوية، وتقنيات الحاسوب والاتصال، وإنتاج الأغذية، والمحاصيل الزراعية، وتطوير الإنتاج الحيواني، والصناعات المختلفة، وهي جميعها مراکز للبحث تعنى بتطوير وتحسين والارتقاء بمستوى الحياة في جوانبها ومجالاتها المتعددة.
ان كل تلك المراكز البحثية سواء كانت في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو العلوم الطبيعية والتطبيقية، انما تهدف في نهاية الأمر إلى التغلب على المشكلات التي تعترض الإنسانية في مسيرتها، وتوفر ایقاع اسهل وایسر واسرع للحياة، يقود البشرية نحو عوالم ارحب من التطور والتقدم.
3 - وضع النظريات والقوانين العلمية، ونقضها
العلم هو الوحيد الكفيل بوضع النظريات والقوانين العلمية، فالدراسات العلمية المتعددة والمتكررة القائمة على وضع و اختبار الفروض هي القادرة على إحالة تلك الفروض إلى نظريات، بناء على اختبارها المتكرر من قبل عدد من الباحثين، حتى إذا ما تم التأكد من صدق تلك الفروض في ظروف مختلفة، ومن باحثين متعددين فإنها تتحول إلى نظرية متكاملة، لها فروضها و ارگانها و أسسها العلمية.
أن الوصول إلى هذه المرحلة وهذا المستوى من المعرفة العلمية المنظمة هو نتاج منطقي للبحث العلمي، كما أن وضع القوانين التي هي أكثر ثباتا وعمومية، تعد حالة تطور أكثر تقدما في ضروب المعرفة العلمية، ولا يمكن وضع القوانين إلا عبر المرور بعالم النظريات، وجميعها نتاج جهود بحثية متواصلة ومستمرة ومتراكمة، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن البحث العلمي الذي وضع النظريات والقوانين العلمية هو ذاته دون غيره المخول بنقضها وهدمها أو تعديلها، من خلال المزيد من البحث العلمي أيضا، فالنظريات والقوانين العلمية متغيرة، وقد تكون موضع للتعديلات أو الرفض في ظل ما ينتجه البحث العلمي من معطيات جديدة، وبهذه الكيفية تتطور النظريات والقوانين العلمية، التي بموجبها يتم تقديم التفسيرات المنطقية للظواهر، وبدون البحث العلمي لن يكون بالإمكان وضع النظريات والقوانين التي توفر لنا فهما عميقا وشاملا وسلسا ومنظما ومنطقيا للظواهر المختلفة، كما انه بدون البحث العلمي المستمر ايضا لن يكون بالإمكان اعادة فحص أو رفض تلك النظريات والقوانين، وبالتالي الولوج نحو مرحلة جديدة تكون أكثر تطورا، وهكذا دواليك، فكم من نظرية عاشت ردحا من الزمن ثم صارت جزء من التاريخ في ظل الاكتشافات والاختراعات الجديدة التي تمت بفضل البحث العلمي وجهود العلماء.
4 - التنبؤ بمستقبل الظواهر العلمية
لا يسعى البحث العلمي إلى رصد الواقع، ومعالجة الظواهر الأنية فقط، بل أنه يتجاوز ذلك إلى استشراف المستقبل، وما ستؤول إليه الظواهر محل الدراسة فيما بعد، فالبحث العلمي هو نشاط تراكمي، يتواصل عبر الزمن، وما يوفره من نتائج حول ظواهر أو مسائل معينة أو قضايا محددة تظل محط نقاش و جدل مستمر، مما يقود إلى إعادة البحث وانتاج دراسات جديدة تقود جميعها إلى التطلع نحو تحكم أنجع في الظواهر على اختلاف مجالاتها.
فالجهد البشري في مجال البحث العلمي هو جهد مستمر ومتواصل، ولا يمكن أن يتوقف عند نقطة معينة، أو عند اكتشاف أو اختراع محدد، فكل اختراع أو اكتشاف جديد مهما بلغ تطوره يظل مصحوبا بجملة من السلبيات والمخاطر التي بدورها تدفع الباحثين والعلماء إلى المزيد من الجهد والبحث العلمي في محاولة دؤوبة لسد الثغرات.
الخاتمة: وتتيح تلك الجهود العلمية وما يترتب عليها من نتائج للباحثين والعلماء في مختلف مناحي العلوم التطلع إلى المستقبل، واستشراف ظروفه وامكانياته، ومحاولة فك ما يحيط به من غموض، وما سيطرأ على الظواهر الطبيعية والاجتماعية من تغيرات في قادم الأيام، وبالتالي فإن ما يتوصل إليه البحث العلمي من نتائج سوف يجعلنا أكثر ادراکا وفهما واستيعابا وتوقعا لما سيكون في المستقبل، وهو الأمر الذي يساعد على وضع الخطط والاستراتيجيات، ورصد الإمكانيات لمواجهة كافة الاحتمالات المتوقعة لأية ظاهرة من الظواهر، حتى يتم الحد من آثارها ونتائجها السلبية، وهو ما نراه اليوم بوضوح في الظواهر الطبيعية كالفيضانات والأعاصير مثلا، أو الظواهر الاقتصادية، كحالات الإفلاس البنكي، وانهيار الأسواق والعملات، أو الظواهر الاجتماعية على اختلاف مستوياتها .. حيث يتيح البحث العلمي القدرة على التنبؤ بما ستؤول إليه العديد من تلك الظواهر بناء على ما يتوصل إليه البحث العلمي من نتائج، ويقترح بالتالي الحلول التي تساعد على تجاوز ما يصاحبها من سلبيات.
قائمة المراجع:
الدكتور مسعود حسين التائب، البحث العلمي، المكتب العربي للمعارف، الطبعة الأولى، ٢٠١٨.